قصة حقيقة حدثت بفلسطين، ولكن لعميل من عملاء اليهود
وقد نقلتها من كتاب "صور ومشاهد من وحي الجهاد الفلسطيني - ماضون برغم الجراح - قصص واقعية من أرض الإسراء" لعبد الناصر محمد مغنم، الذي صاغها بأسلوب جميل...
سأنتقم يا أمي!!
كانت أم هاشم تجلس على مصلاها رافعة كفيها نحو السماء، تلهج بالدعاء لولدها..
- الحمد لله رب العالمين.. لقد تاب واهتدى أخيراً!!
تلاشت الغيوم، وانقشع الضباب.. أشرقت الشمس، وأرسلت بنورها الساطع، ليعم النهار سماء القرية الجميلة.. مضت أيام ممطرة، ارتوت معها الأرض، وانتعشت بالحياة من جديد.. لقد اكتست حلتها الجميلة الخضراء، وتهللت بنضارتها البهية..
تناثرت تجمعات المياه هنا وهناك.. هبت نسائم باردة، لتداعب الأجساد الدافئة، وتثير فيها الرعشة، لتنتفض، ثم تنكمش، وهكذا..
ما أجمل منظر تلك الأغصان المتمايلة والسنابل المتماوجة، تحركها الرياح الهادئة المتراخية، وكأنها تتراقص، وقد تزينت بحبات المطر العالقة، التي جعلت ترسل بريقاً كلما أصابها شعاع الشمس المتقطع بسبب الغمامات المتناثرة في السماء الزرقاء..
تنسم هاشم الهواء النقي، الذي اختلط برائحة الأرض السمراء المبتلة في ذلك الصباح الجميل.. أقبل نحو أمه، التي وقفت على شرفة منزلها، تتأمل الطبيعة الخلابة على التلال المجاورة.. انفرجت شفتاه عن ابتسامة بريئة، تخفي شعوراً بالندم لما فات..
-- كيف أصبحت يا أمي؟!! أرجو أن تكوني الآن بخير..
تنظر إليه، وقد علا وجهها الشعور بالاطمئنان..
- الحمد لله يا بني.. لم أعرف السعادة من قبل مثلما عرفتها الآن!!
تدمع عينا هاشم.. يقبل رأس أمه..
-- سامحيني يا أمي.. فقد تسببت لك بالشقاء كل هذه المدة.
- لا عليك يا بني.. توبتك أنستني كل العذاب..
-- ولكن..!!
- ماذا هناك يا ولدي؟!
-- أتظنين أن الله يغفر لي بعد كل ما فعلت؛ لمجرد أني نويت التوبة، وقررت الاستقامة..
- ولم لا يا بني؟! إن الله غفور رحيم..
-- ولكنني ما زلت أتعذب..
- وما الذي يعذبك يا بني؟!
-- أنات المعتقلين بسببي.. آهات الثكالى، اللاتي تسببت في مقتل أبنائهن.. دموع اليتامى، الذين فقدوا آباءهم؛ نتيجة تقاريري ، التي قدمتها لليهود!!
يبكي.. يجهش بصوت اختلط بآلام الندم..
-- رباه.. أوتقبل توبتي بعد كل هذا..؟!!
تسيل الدموع على وجنتي أمه.. تجزع لما سمعت..
- أوكل هذا قد اقترفت يداك يا بني؟!!
-- وأكثر يا أمي..
ينتحب، وتتقاطر دموعه على الأرض..
تتنهد أمه بأسى..
- باب التوبة مفتوح يا بني.. قم، وصل ركعتي الضحى، ولا تجزع..
ظلت تلك الذكريات الرهيبة تنشب أظفارها في قلب [هاشم ووجدانه].. فقد أوقعته رفقة السوء في شرك اليهود.. ولما لم يصبر على التعذيب والإغراءات، قرر التعاون معهم.. وكانت له تجارب أليمة، داس خلالها بقدميه كل القيم والمعاني الإنسانية والمروءة والشرف.. إلا أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمان.. وشاء الله لهذا الشاب أن يتوب، ويصحو من غفلته..
في تلك الليلة المظلمة، حضر هاشم لبيته متأخراً.. خلع سترته السوداء، وألقى بها على الأريكة.. كان وجهه يحمل الكآبة والهم والغم..
قامت إليه أمه بِوَلَهٍ ولهفة..
- ماذا حدث يا بني؟ خيراً إن شاء الله!!
يجيب بعصبية:
-- وأي خير سيأتي من هؤلاء الأوغاد يا أمي؟!
- هل عرفوا أمر توبتك يا بني؟
-- لا يا أمي..
- وماذا فعلت معهم.. لماذا طلبوا منك أن تحضر إليهم؟!
-- طلب الضابط مني مرافقته غدا إلى نتانيا..
- وماذا يريدون منك؟
-- مهمة جديدة يا أمي..
تنتفض، وقد تملكها الرعب والفزع..
- إياك يا بني.. إني أخاف عليك!!
-- اطمئني يا أمي.. ليس هناك من يستطيع أن يردني إلى الوراء إن شاء الله.. فقد تذوقت حلاوة التوبة والإيمان.. وقد أدركت عظم جرمي.. وقررت أن أمحو الماضي، وأغسل خطيئتي..
- وكيف ذلك؟ ما الذي تنوي فعله..؟!!
-- ستعرفين فيما بعد يا أمي..!!
*** *** ***
ضجيج السيارات يحطم الهدوء الليلي للمدينة الساحلية.. أضواء نتانيا الصفراء تنبعث هائجة، تعبر عن جماح الشهوات والملذات الدنيوية الزائلة.. رائحة البحر تملأ الجو الساحلي الهائم، وتزكم الأنوف.. خرير المياه المتلاطمة يضفي نوعاً من الشرود، ويبعث في النفس شعوراً غريباً، يقود إلى الدوار..
اخترقت شوارع المدينة سيارة حمراء لامعة، تسير بسرعة، لتتوقف مقابل منزل متطرف، امتلأ فناؤه بالورود والأزهار، وأحيطت أزهاره بشجيرات الغرقد..
ترجل شخصان متلفعان بثياب الشتاء القارس.. تقدم أحدهما؛ ليفتح باب المنزل، الذي بدا خالياً من السكان.
--- تفضل يا هاشم.. ادخل.
يدخل هاشم، وهو يتلفت يميناً وشمالاً..
-- منزل جميل.. أهو ملك لك؟!
--- لا، إنه ليس لي..
-- ولمن يكون..؟!
--- دعك من هذا، واخلع معطفك، واسترح قليلاً، ريثما أعد الشاي..
-- لا بأس..
جلس هاشم على الأريكة، بينما راح الضابط يجهز الشاي.. تواردت الأفكار متلاحقة في ذهن هاشم..
-- ترى، ماذا يريد مني هذا الخبيث؟! لا بد أنه أمر [مهم].. هؤلاء السفلة لم يتركوا وسيلة نذلة إلا واتبعوها.. وشعبي هو الضحية..
يدخل الضابط مترنماً، يحمل إبريق الشاي..
--- ها يا هاشم.. هل أعجبك المنزل؟!
-- إنه جميل جداً!!
--- ما رأيك لو أعطيتك مفتاحه؛ لتمكث فيه أسبوعين..؟
-- أمكث فيه أسبوعين؟!!
--- وسأحضر لك كل ما تريد.. وستكون أيامك أعراساً جميلة..
-- ومن الذي يرفض مثل هذا العرض المغري؟!!
--- حسناً.. ولكن لا بد من تقديم الثمن.. وأنت قادر على ذلك!!
-- أتريد مني مالاً؟!!
--- لا.. لا.. إنما أريد مهارتك في تتبع المخربين..
-- حسناً.. ماذا يمكنني أن أفعل؟!!
--- اسمع يا هاشم.. هناك خلية كبيرة للمخربين، تتوزع على [ثلاث] مناطق.. نابلس وقلقيلية وجنين.. وإن استطعنا وضع أيدينا على خيط من خيوط هذه الخلية، استطعنا القضاء عليها بالكامل.. وثقتنا بك كبيرة.. فقد كنت من أفضل عملائنا..
-- هذا عظيم.
يطرق، ويوهم الضابط بأنه يفكر في الأمر بجدية.
--- انتظر هنا، ريثما آتي [بالخريطة]؛ لأوضح لك أكثر..
ينهض من مجلسه.. يتوجه ناحية باب الغرفة، التي ولجها الضابط.. يخرج سكيناً من جيبه.. يكمن في جانب الباب الأيمن.. يخرج الضابط، وبيده [الخريطة] مفتوحة، ينظر إليها.. يفاجئه هاشم بطعنات غاضبة متوالية بسكينه الحاد.. يذهل الضابط، ويتجمد قليلاً، قبل أن يقع مضرجاً بالدماء..
--- آآه..
ينحني هاشم عليه؛ ليتأكد من موته.. يفتش ثيابه، ويخرج مسدسه.. ينطلق، ويستقل سيارته، ويفر من المنطقة هارباً..
*** *** ***
في صباح ذلك اليوم، كان سماء القرية مكفهراً.. وكان المطر غزيراً.. هبت رياح عاتية.. رصاص غزير في كل مكان.. القرية محاصرة.. هاشم يتنقل من زقاق لآخر.. اليهود يقتحمون القرية من كل جانب.. مطاردة شرسة، تستهدف هاشم.. يكل، ويشعر بالتعب.. يتكئ على سور من أسوار البيوت المنتشرة.. تلوح له امرأة من بعيد.. يقبل نحوها..
---- لا تخف يا هاشم.. ادخل هنا، وسأحميك.. اختبئ بسرعة..
يتهلل وجهه..
-- شكراً لك يا خالة.. الحمد لله.
يستند إلى جدار الغرفة، ويتنهد بعمق.. يشعر بنبضات قلبه تتسارع.. تتوالى أنفاسه اللاهثة..
يشعر بالهدوء.. يتأمل الغرفة.. يتقدم ناحية النافذة.. يزيح الستارة، وينظر عن كثب.. يتغير لونه.. ينتفض، وقد أصابه الذهول..
-- لا.. هذا مستحيل.. أيعقل أن تكون عميلة؟!
لقد رأى المرأة وهي تشير للجنود، وتدلهم على مكانه..
أسرع بالقفز من النافذة، وبادر الجنود بإطلاق النار..
-- خذوا يا قتلة..
وتحتدم المعركة.. [وتشهد] سماء القرية زخات من الرصاص الغزير.. ويصرع أحد الجنود، ويصاب آخر.. وتنفد ذخيرة هاشم.. ويختبئ بين الصخور والبيوت المهدمة على مشارف القرية.. يحاصره الجنود من كل جانب.. يهجم عليهم بسكينه.. يفزعون، ويطلقون النار..
-- آآه.. الله أكبر..
ويسحب الجنود جثته المخرقة بالرصاص.. ويدوسون فوقها بالأقدام.. وتهرع أمه الثكلى لرؤية جسده المصبوغ بالدماء، تبكي، وتلقي بجسدها على جثته.. يشدها أحد الجنود من رأسها، ويلقي بها إلى الأرض.. تصرخ بشدة..
- الله أكبر.. الحمد لله.. غسل خطيئته.. غسل خطيئته.. بيضت وجهي يا بني.. رحمة الله عليك يا ولدي..
ويخيم السكون على القرية.. الناس بين فرح وحزن..
فرحوا لتوبة هاشم وقتله للضابط المعروف بالسوء والدهاء..
وحزنوا لمقتله، بعد هذه المواجهة، التي ستظل عالقة في أذهان أبناء القرية، ما داموا على قيد الحياة!!
وقد نقلتها من كتاب "صور ومشاهد من وحي الجهاد الفلسطيني - ماضون برغم الجراح - قصص واقعية من أرض الإسراء" لعبد الناصر محمد مغنم، الذي صاغها بأسلوب جميل...
سأنتقم يا أمي!!
كانت أم هاشم تجلس على مصلاها رافعة كفيها نحو السماء، تلهج بالدعاء لولدها..
- الحمد لله رب العالمين.. لقد تاب واهتدى أخيراً!!
تلاشت الغيوم، وانقشع الضباب.. أشرقت الشمس، وأرسلت بنورها الساطع، ليعم النهار سماء القرية الجميلة.. مضت أيام ممطرة، ارتوت معها الأرض، وانتعشت بالحياة من جديد.. لقد اكتست حلتها الجميلة الخضراء، وتهللت بنضارتها البهية..
تناثرت تجمعات المياه هنا وهناك.. هبت نسائم باردة، لتداعب الأجساد الدافئة، وتثير فيها الرعشة، لتنتفض، ثم تنكمش، وهكذا..
ما أجمل منظر تلك الأغصان المتمايلة والسنابل المتماوجة، تحركها الرياح الهادئة المتراخية، وكأنها تتراقص، وقد تزينت بحبات المطر العالقة، التي جعلت ترسل بريقاً كلما أصابها شعاع الشمس المتقطع بسبب الغمامات المتناثرة في السماء الزرقاء..
تنسم هاشم الهواء النقي، الذي اختلط برائحة الأرض السمراء المبتلة في ذلك الصباح الجميل.. أقبل نحو أمه، التي وقفت على شرفة منزلها، تتأمل الطبيعة الخلابة على التلال المجاورة.. انفرجت شفتاه عن ابتسامة بريئة، تخفي شعوراً بالندم لما فات..
-- كيف أصبحت يا أمي؟!! أرجو أن تكوني الآن بخير..
تنظر إليه، وقد علا وجهها الشعور بالاطمئنان..
- الحمد لله يا بني.. لم أعرف السعادة من قبل مثلما عرفتها الآن!!
تدمع عينا هاشم.. يقبل رأس أمه..
-- سامحيني يا أمي.. فقد تسببت لك بالشقاء كل هذه المدة.
- لا عليك يا بني.. توبتك أنستني كل العذاب..
-- ولكن..!!
- ماذا هناك يا ولدي؟!
-- أتظنين أن الله يغفر لي بعد كل ما فعلت؛ لمجرد أني نويت التوبة، وقررت الاستقامة..
- ولم لا يا بني؟! إن الله غفور رحيم..
-- ولكنني ما زلت أتعذب..
- وما الذي يعذبك يا بني؟!
-- أنات المعتقلين بسببي.. آهات الثكالى، اللاتي تسببت في مقتل أبنائهن.. دموع اليتامى، الذين فقدوا آباءهم؛ نتيجة تقاريري ، التي قدمتها لليهود!!
يبكي.. يجهش بصوت اختلط بآلام الندم..
-- رباه.. أوتقبل توبتي بعد كل هذا..؟!!
تسيل الدموع على وجنتي أمه.. تجزع لما سمعت..
- أوكل هذا قد اقترفت يداك يا بني؟!!
-- وأكثر يا أمي..
ينتحب، وتتقاطر دموعه على الأرض..
تتنهد أمه بأسى..
- باب التوبة مفتوح يا بني.. قم، وصل ركعتي الضحى، ولا تجزع..
ظلت تلك الذكريات الرهيبة تنشب أظفارها في قلب [هاشم ووجدانه].. فقد أوقعته رفقة السوء في شرك اليهود.. ولما لم يصبر على التعذيب والإغراءات، قرر التعاون معهم.. وكانت له تجارب أليمة، داس خلالها بقدميه كل القيم والمعاني الإنسانية والمروءة والشرف.. إلا أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمان.. وشاء الله لهذا الشاب أن يتوب، ويصحو من غفلته..
في تلك الليلة المظلمة، حضر هاشم لبيته متأخراً.. خلع سترته السوداء، وألقى بها على الأريكة.. كان وجهه يحمل الكآبة والهم والغم..
قامت إليه أمه بِوَلَهٍ ولهفة..
- ماذا حدث يا بني؟ خيراً إن شاء الله!!
يجيب بعصبية:
-- وأي خير سيأتي من هؤلاء الأوغاد يا أمي؟!
- هل عرفوا أمر توبتك يا بني؟
-- لا يا أمي..
- وماذا فعلت معهم.. لماذا طلبوا منك أن تحضر إليهم؟!
-- طلب الضابط مني مرافقته غدا إلى نتانيا..
- وماذا يريدون منك؟
-- مهمة جديدة يا أمي..
تنتفض، وقد تملكها الرعب والفزع..
- إياك يا بني.. إني أخاف عليك!!
-- اطمئني يا أمي.. ليس هناك من يستطيع أن يردني إلى الوراء إن شاء الله.. فقد تذوقت حلاوة التوبة والإيمان.. وقد أدركت عظم جرمي.. وقررت أن أمحو الماضي، وأغسل خطيئتي..
- وكيف ذلك؟ ما الذي تنوي فعله..؟!!
-- ستعرفين فيما بعد يا أمي..!!
*** *** ***
ضجيج السيارات يحطم الهدوء الليلي للمدينة الساحلية.. أضواء نتانيا الصفراء تنبعث هائجة، تعبر عن جماح الشهوات والملذات الدنيوية الزائلة.. رائحة البحر تملأ الجو الساحلي الهائم، وتزكم الأنوف.. خرير المياه المتلاطمة يضفي نوعاً من الشرود، ويبعث في النفس شعوراً غريباً، يقود إلى الدوار..
اخترقت شوارع المدينة سيارة حمراء لامعة، تسير بسرعة، لتتوقف مقابل منزل متطرف، امتلأ فناؤه بالورود والأزهار، وأحيطت أزهاره بشجيرات الغرقد..
ترجل شخصان متلفعان بثياب الشتاء القارس.. تقدم أحدهما؛ ليفتح باب المنزل، الذي بدا خالياً من السكان.
--- تفضل يا هاشم.. ادخل.
يدخل هاشم، وهو يتلفت يميناً وشمالاً..
-- منزل جميل.. أهو ملك لك؟!
--- لا، إنه ليس لي..
-- ولمن يكون..؟!
--- دعك من هذا، واخلع معطفك، واسترح قليلاً، ريثما أعد الشاي..
-- لا بأس..
جلس هاشم على الأريكة، بينما راح الضابط يجهز الشاي.. تواردت الأفكار متلاحقة في ذهن هاشم..
-- ترى، ماذا يريد مني هذا الخبيث؟! لا بد أنه أمر [مهم].. هؤلاء السفلة لم يتركوا وسيلة نذلة إلا واتبعوها.. وشعبي هو الضحية..
يدخل الضابط مترنماً، يحمل إبريق الشاي..
--- ها يا هاشم.. هل أعجبك المنزل؟!
-- إنه جميل جداً!!
--- ما رأيك لو أعطيتك مفتاحه؛ لتمكث فيه أسبوعين..؟
-- أمكث فيه أسبوعين؟!!
--- وسأحضر لك كل ما تريد.. وستكون أيامك أعراساً جميلة..
-- ومن الذي يرفض مثل هذا العرض المغري؟!!
--- حسناً.. ولكن لا بد من تقديم الثمن.. وأنت قادر على ذلك!!
-- أتريد مني مالاً؟!!
--- لا.. لا.. إنما أريد مهارتك في تتبع المخربين..
-- حسناً.. ماذا يمكنني أن أفعل؟!!
--- اسمع يا هاشم.. هناك خلية كبيرة للمخربين، تتوزع على [ثلاث] مناطق.. نابلس وقلقيلية وجنين.. وإن استطعنا وضع أيدينا على خيط من خيوط هذه الخلية، استطعنا القضاء عليها بالكامل.. وثقتنا بك كبيرة.. فقد كنت من أفضل عملائنا..
-- هذا عظيم.
يطرق، ويوهم الضابط بأنه يفكر في الأمر بجدية.
--- انتظر هنا، ريثما آتي [بالخريطة]؛ لأوضح لك أكثر..
ينهض من مجلسه.. يتوجه ناحية باب الغرفة، التي ولجها الضابط.. يخرج سكيناً من جيبه.. يكمن في جانب الباب الأيمن.. يخرج الضابط، وبيده [الخريطة] مفتوحة، ينظر إليها.. يفاجئه هاشم بطعنات غاضبة متوالية بسكينه الحاد.. يذهل الضابط، ويتجمد قليلاً، قبل أن يقع مضرجاً بالدماء..
--- آآه..
ينحني هاشم عليه؛ ليتأكد من موته.. يفتش ثيابه، ويخرج مسدسه.. ينطلق، ويستقل سيارته، ويفر من المنطقة هارباً..
*** *** ***
في صباح ذلك اليوم، كان سماء القرية مكفهراً.. وكان المطر غزيراً.. هبت رياح عاتية.. رصاص غزير في كل مكان.. القرية محاصرة.. هاشم يتنقل من زقاق لآخر.. اليهود يقتحمون القرية من كل جانب.. مطاردة شرسة، تستهدف هاشم.. يكل، ويشعر بالتعب.. يتكئ على سور من أسوار البيوت المنتشرة.. تلوح له امرأة من بعيد.. يقبل نحوها..
---- لا تخف يا هاشم.. ادخل هنا، وسأحميك.. اختبئ بسرعة..
يتهلل وجهه..
-- شكراً لك يا خالة.. الحمد لله.
يستند إلى جدار الغرفة، ويتنهد بعمق.. يشعر بنبضات قلبه تتسارع.. تتوالى أنفاسه اللاهثة..
يشعر بالهدوء.. يتأمل الغرفة.. يتقدم ناحية النافذة.. يزيح الستارة، وينظر عن كثب.. يتغير لونه.. ينتفض، وقد أصابه الذهول..
-- لا.. هذا مستحيل.. أيعقل أن تكون عميلة؟!
لقد رأى المرأة وهي تشير للجنود، وتدلهم على مكانه..
أسرع بالقفز من النافذة، وبادر الجنود بإطلاق النار..
-- خذوا يا قتلة..
وتحتدم المعركة.. [وتشهد] سماء القرية زخات من الرصاص الغزير.. ويصرع أحد الجنود، ويصاب آخر.. وتنفد ذخيرة هاشم.. ويختبئ بين الصخور والبيوت المهدمة على مشارف القرية.. يحاصره الجنود من كل جانب.. يهجم عليهم بسكينه.. يفزعون، ويطلقون النار..
-- آآه.. الله أكبر..
ويسحب الجنود جثته المخرقة بالرصاص.. ويدوسون فوقها بالأقدام.. وتهرع أمه الثكلى لرؤية جسده المصبوغ بالدماء، تبكي، وتلقي بجسدها على جثته.. يشدها أحد الجنود من رأسها، ويلقي بها إلى الأرض.. تصرخ بشدة..
- الله أكبر.. الحمد لله.. غسل خطيئته.. غسل خطيئته.. بيضت وجهي يا بني.. رحمة الله عليك يا ولدي..
ويخيم السكون على القرية.. الناس بين فرح وحزن..
فرحوا لتوبة هاشم وقتله للضابط المعروف بالسوء والدهاء..
وحزنوا لمقتله، بعد هذه المواجهة، التي ستظل عالقة في أذهان أبناء القرية، ما داموا على قيد الحياة!!