بسم الله الرحمن الرحيم
الخليفة لم ينم .. !!
قصة تاريخية بقلم / عبد الناصر محمد مغنم ***********
حاول النوم مراراً دون جدوى .. جعل يتقلب في فراشه ذات اليمين وذات الشمال .. لم يستطع مقاومة الأرق الداهم الذي أصابه في تلك الليلة .. شعر بهمٍّ عظيمٍ يجثم فوق صدره .. هب من فراشه كالخائف المذعور من فوات فرصة في النجاة من مدلهم الخطوب ...
تناول ثوبه وعمامته بخفة وارتداهما على عجل ومضى دون أن يسمح لنفسه أن تسترسل في ارتدائهما بأناة وتؤدة ..
أفاقت زوجته أم كلثوم فجأة فرأته يمضي ويغلق الباب خلفه .. لم تكن لتستطيع ثنيه عن الخروج في هذا الوقت المتأخر من الليل ..
جلست في فراشها وجعلت تنظر من النافذة تراقب شبحه وهو يبتعد وسط الظلام البهيم ثم يختفي في أزقة المدينة .. تمتمت بكلمات حزينة ..
- كان الله في عونك .. حَمَّلْتَ نفسك فوق ما تطيق ..
جعل ينتقل من زقاق إلى زقاق ينظر في أحوال أهل المدينة .. توالت الخواطر في ذهنه ..
- أتراهم آمنون مطمئنون .. أتراني أديت حقهم عليّ..
- آآه .. كيف يمكنني أن أدرك النجاة وأنا لا أدري من منهم بات الليلة مظلوماً ولم يستطع رفع ظلامته إليّ ... وبماذا أجيب إن سئلت عمن بات طاوياً على الجوع لا يجد ما يسد الرمق .. أو بات يئن من ألم المرض لأنه لا يجد من يداويه ..
وصل إلى أطراف المدينة دون أن يشعر كيف قطع كل هذه المسافة .. نظر في الأفق يتأمل الصحراء على ضوء النجوم .. لمح ناراً ترسل بريقاًخافتاً في البيداء ..
تنهد بعمق وهو يتمتم ..
- وهؤلاء غفلت عنهم أيضاً .. !!
كانت رمال الصحراء تتنفس فترسل مع الزفير هواءً ساخناً في ظلمة تلك الليلة .. سار عمر نحو النار بخطى بطيئة تركت آثاراً في الرمل الكثيف .. بدأت تلوح له معالم خيمة صغيرة خلف النار .. نظر بتمعن فرأى رجلاً يلقي بأعوادٍ من الحطب في النار ليزيدها اشتعالاً .. جعل يقترب منه أكثر فأكثر .. رأى الرجل يضع قدراً صغيرةً فوق النار ..
تقدم نحوه ببطء ..
- السلام عليكم ورحمة الله ..
هب الرجل فزعاً وقد أصابته الدهشة ..
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .. من .. ماذا تريد ؟
- على رسلك يا رجل .. إنما جئت لأعرف من تكون ؟! وما الذي جاء بك إلى هنا ؟
- أنا .. أنا رجلٌ من أهل البادية .. أتيت أمير المؤمنين أصيب من فضله ..
سمع صوت أنين داخل الخيمة .. نظر إلى الرجل بدهشة ..
- أسمع صوتاً هناك .. ماذا في تلك الخيمة .. ؟!
- ها .. إنها .. إنها زوجتي ..
- زوجتك .. ولماذا الأنين ؟
- إنها تمخّض وتوشك أن تضع ..
- وهل معها أحد من النساء ؟!
- كلا يا أخي .. ليس عندها امرأة تعينها أو تصلح من شأنها ..
- ماذا .. هنا في هذا المكان ..
- لقد أصابتنا فاقة شديدة ، فاضطررنا للسفر طلباً للرزق .. ولما سمعنا بعدل عمر وعطائه قدمنا إليه .. فأدركنا ما نحن فيه هنا على مشارف المدينة ..
وقف مذهولاً من هول ما سمع .. أطرق مليا يفكر بحال الرجل وزوجته .. دارت به الدنيا من شدة الأسى .. تتابعت الخواطر في ذهنه ..
- ويحي إذن .. كيف يحدث هذا في غفلةٍ مني .. امرأة يأتيها المخاض في قارعة الطريق فلا تجد ما يصلح شأنها .. ؟!! كيف أنجو من المسألة عن مثل هؤلاء بين يدي الله غداً..؟!
أفاق من شروده على صوت الماء يغلي على النار ..
ولى ظهره وانطلق مسرعاً وهو يقول للرجل ..
- انتظرني ريثما أعود ..
أطلق لساقيه العنان نحو المدينة .. هرول يريد منزله .. وصل بعد عناء .. دخل على زوجته يلهث من شدة الإعياء ..
- يا أم كلثوم .. يا أم كلثوم ..
نهضت من فراشها فزعة ..
- ماذا دهاك .. هل أصابك مكروه ؟!
- هيا يا أم كلثوم .. هيا بسرعة ..
نهضت بخفة ملبية نداءه وقد اعترتها الدهشة ..
- ولكن إلى أين ؟!
- هيا إلى أجرٍ ساقه الله إليك ..
- وما هو يا زوجي العزيز .. !!
- إنها امرأة غريبة توشك أن تلد وليس عندها أحد غير زوجها ..
- وأين هي الآن ..
- هناك في الصحراء على مشارف المدينة ..
- علينا أن نسرع إذن ..
- خذي ما يصلح المرأة لولادتها من الخرق والدهن وجيئيني ببرمة وشحم وحبوب ..
- حسناً يا زوجي العزيز ..
هبت تجمع كل ما يعينها في مهمتها .. هيأت كل شيء طلبه زوجها ..
تنهدت بعمق ..
- كل شيء على ما يرام ..
- أعينيني على حملها ..
- ألا تطلب مساعدة أحد من أصحابك .. ؟!
- أنا أحق بهذا منهم ..
ويحمل المتاع على عاتقه .. ويمضي مع زوجته نحو الخيمة ..
أشار إلى الخيمة وطلب منها الإسراع في الدخول لمعاونة المرأة ..
نظر إلى الرجل وابتسم له ..
- أوقد لي النار الآن ..
- ولم كل هذا يا رجل .. ؟!
- إنه بعض حقك عليّ ..
- سامحك الله .. أرهقت نفسك ..
- لا عليك .. أوقد لي النار بسرعة ..
ويشعل الرجل النار ، ويهيء عمر البرمة ويضعها فوق النار .. وينضج الطعام .. ويسمعان صراخ الطفل في الخيمة .. يهب الرجل واقفاً ..
تنادي أم كلثوم زوجها ..
- يا أمير المؤمنين ... بشر صاحبك بغلام ..
ويذهل الرجل لسماعه هذا النداء .. يلتفت نحو عمر ..
-ماذا ؟! .. أمير المؤمنين ؟!
يبتسم له عمر ..
- لا تجزع يا رجل .. إنما قمت بواجبي ..
- ولكن ..
- أعني لنرفع البرمة عن النار ..
- بل دعني أحملها عنك يا أمير المؤمنين ..
- كما أنت ..
ويحمل عمر البرمة ويضعها عند باب الخيمة وسط دهشة الرجل وذهوله .. ينادي على زوجته ..
- أطعميها جيداً يا أم كلثوم ..
- حسناً يا أمير المؤمنين ..
رجع إلى الرجل وجلس يحدثه .. مكث معه قليلاً ريثما يرجع إناء الطعام ..
أخرجت أم كلثوم الإناء ودعت زوجها ليطعم الرجل ..
بقي الرجل مكانه مذهولاً لا يحرك ساكناً من هول المفاجأة .. نظر إليه عمر باستغراب ..
- كل ويحك .. فإنك قد سهرت من الليل ..
مد الرجل يده وجعل يأكل على استحياء ..
خرجت أم كلثوم من الخيمة بعد أن أدت ما عليها على أكمل وجه ..
- إنها نائمة بجانب طفلها الآن ..
نهض عمر رضي الله عنه وهو يحمد الله .. نظر إلى الرجل ..
- إذا أصبحت فأتنا نأمر لك بما يصلحك ..
ودعه ثم تركه ومضى مع زوجته نحو المدينة بينما ظل الرجل لفترةٍ مطرقاً يفكر بهذا الخليفة العظيم .. شعر بنعمة الراعي القوي الأمين ..
رفع رأسه إلى السماء ..
- اللهم هذا عبدك عمر قد رفق بنا .. اللهم فارفق به ..
الخليفة لم ينم .. !!
قصة تاريخية بقلم / عبد الناصر محمد مغنم ***********
حاول النوم مراراً دون جدوى .. جعل يتقلب في فراشه ذات اليمين وذات الشمال .. لم يستطع مقاومة الأرق الداهم الذي أصابه في تلك الليلة .. شعر بهمٍّ عظيمٍ يجثم فوق صدره .. هب من فراشه كالخائف المذعور من فوات فرصة في النجاة من مدلهم الخطوب ...
تناول ثوبه وعمامته بخفة وارتداهما على عجل ومضى دون أن يسمح لنفسه أن تسترسل في ارتدائهما بأناة وتؤدة ..
أفاقت زوجته أم كلثوم فجأة فرأته يمضي ويغلق الباب خلفه .. لم تكن لتستطيع ثنيه عن الخروج في هذا الوقت المتأخر من الليل ..
جلست في فراشها وجعلت تنظر من النافذة تراقب شبحه وهو يبتعد وسط الظلام البهيم ثم يختفي في أزقة المدينة .. تمتمت بكلمات حزينة ..
- كان الله في عونك .. حَمَّلْتَ نفسك فوق ما تطيق ..
جعل ينتقل من زقاق إلى زقاق ينظر في أحوال أهل المدينة .. توالت الخواطر في ذهنه ..
- أتراهم آمنون مطمئنون .. أتراني أديت حقهم عليّ..
- آآه .. كيف يمكنني أن أدرك النجاة وأنا لا أدري من منهم بات الليلة مظلوماً ولم يستطع رفع ظلامته إليّ ... وبماذا أجيب إن سئلت عمن بات طاوياً على الجوع لا يجد ما يسد الرمق .. أو بات يئن من ألم المرض لأنه لا يجد من يداويه ..
وصل إلى أطراف المدينة دون أن يشعر كيف قطع كل هذه المسافة .. نظر في الأفق يتأمل الصحراء على ضوء النجوم .. لمح ناراً ترسل بريقاًخافتاً في البيداء ..
تنهد بعمق وهو يتمتم ..
- وهؤلاء غفلت عنهم أيضاً .. !!
كانت رمال الصحراء تتنفس فترسل مع الزفير هواءً ساخناً في ظلمة تلك الليلة .. سار عمر نحو النار بخطى بطيئة تركت آثاراً في الرمل الكثيف .. بدأت تلوح له معالم خيمة صغيرة خلف النار .. نظر بتمعن فرأى رجلاً يلقي بأعوادٍ من الحطب في النار ليزيدها اشتعالاً .. جعل يقترب منه أكثر فأكثر .. رأى الرجل يضع قدراً صغيرةً فوق النار ..
تقدم نحوه ببطء ..
- السلام عليكم ورحمة الله ..
هب الرجل فزعاً وقد أصابته الدهشة ..
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .. من .. ماذا تريد ؟
- على رسلك يا رجل .. إنما جئت لأعرف من تكون ؟! وما الذي جاء بك إلى هنا ؟
- أنا .. أنا رجلٌ من أهل البادية .. أتيت أمير المؤمنين أصيب من فضله ..
سمع صوت أنين داخل الخيمة .. نظر إلى الرجل بدهشة ..
- أسمع صوتاً هناك .. ماذا في تلك الخيمة .. ؟!
- ها .. إنها .. إنها زوجتي ..
- زوجتك .. ولماذا الأنين ؟
- إنها تمخّض وتوشك أن تضع ..
- وهل معها أحد من النساء ؟!
- كلا يا أخي .. ليس عندها امرأة تعينها أو تصلح من شأنها ..
- ماذا .. هنا في هذا المكان ..
- لقد أصابتنا فاقة شديدة ، فاضطررنا للسفر طلباً للرزق .. ولما سمعنا بعدل عمر وعطائه قدمنا إليه .. فأدركنا ما نحن فيه هنا على مشارف المدينة ..
وقف مذهولاً من هول ما سمع .. أطرق مليا يفكر بحال الرجل وزوجته .. دارت به الدنيا من شدة الأسى .. تتابعت الخواطر في ذهنه ..
- ويحي إذن .. كيف يحدث هذا في غفلةٍ مني .. امرأة يأتيها المخاض في قارعة الطريق فلا تجد ما يصلح شأنها .. ؟!! كيف أنجو من المسألة عن مثل هؤلاء بين يدي الله غداً..؟!
أفاق من شروده على صوت الماء يغلي على النار ..
ولى ظهره وانطلق مسرعاً وهو يقول للرجل ..
- انتظرني ريثما أعود ..
أطلق لساقيه العنان نحو المدينة .. هرول يريد منزله .. وصل بعد عناء .. دخل على زوجته يلهث من شدة الإعياء ..
- يا أم كلثوم .. يا أم كلثوم ..
نهضت من فراشها فزعة ..
- ماذا دهاك .. هل أصابك مكروه ؟!
- هيا يا أم كلثوم .. هيا بسرعة ..
نهضت بخفة ملبية نداءه وقد اعترتها الدهشة ..
- ولكن إلى أين ؟!
- هيا إلى أجرٍ ساقه الله إليك ..
- وما هو يا زوجي العزيز .. !!
- إنها امرأة غريبة توشك أن تلد وليس عندها أحد غير زوجها ..
- وأين هي الآن ..
- هناك في الصحراء على مشارف المدينة ..
- علينا أن نسرع إذن ..
- خذي ما يصلح المرأة لولادتها من الخرق والدهن وجيئيني ببرمة وشحم وحبوب ..
- حسناً يا زوجي العزيز ..
هبت تجمع كل ما يعينها في مهمتها .. هيأت كل شيء طلبه زوجها ..
تنهدت بعمق ..
- كل شيء على ما يرام ..
- أعينيني على حملها ..
- ألا تطلب مساعدة أحد من أصحابك .. ؟!
- أنا أحق بهذا منهم ..
ويحمل المتاع على عاتقه .. ويمضي مع زوجته نحو الخيمة ..
أشار إلى الخيمة وطلب منها الإسراع في الدخول لمعاونة المرأة ..
نظر إلى الرجل وابتسم له ..
- أوقد لي النار الآن ..
- ولم كل هذا يا رجل .. ؟!
- إنه بعض حقك عليّ ..
- سامحك الله .. أرهقت نفسك ..
- لا عليك .. أوقد لي النار بسرعة ..
ويشعل الرجل النار ، ويهيء عمر البرمة ويضعها فوق النار .. وينضج الطعام .. ويسمعان صراخ الطفل في الخيمة .. يهب الرجل واقفاً ..
تنادي أم كلثوم زوجها ..
- يا أمير المؤمنين ... بشر صاحبك بغلام ..
ويذهل الرجل لسماعه هذا النداء .. يلتفت نحو عمر ..
-ماذا ؟! .. أمير المؤمنين ؟!
يبتسم له عمر ..
- لا تجزع يا رجل .. إنما قمت بواجبي ..
- ولكن ..
- أعني لنرفع البرمة عن النار ..
- بل دعني أحملها عنك يا أمير المؤمنين ..
- كما أنت ..
ويحمل عمر البرمة ويضعها عند باب الخيمة وسط دهشة الرجل وذهوله .. ينادي على زوجته ..
- أطعميها جيداً يا أم كلثوم ..
- حسناً يا أمير المؤمنين ..
رجع إلى الرجل وجلس يحدثه .. مكث معه قليلاً ريثما يرجع إناء الطعام ..
أخرجت أم كلثوم الإناء ودعت زوجها ليطعم الرجل ..
بقي الرجل مكانه مذهولاً لا يحرك ساكناً من هول المفاجأة .. نظر إليه عمر باستغراب ..
- كل ويحك .. فإنك قد سهرت من الليل ..
مد الرجل يده وجعل يأكل على استحياء ..
خرجت أم كلثوم من الخيمة بعد أن أدت ما عليها على أكمل وجه ..
- إنها نائمة بجانب طفلها الآن ..
نهض عمر رضي الله عنه وهو يحمد الله .. نظر إلى الرجل ..
- إذا أصبحت فأتنا نأمر لك بما يصلحك ..
ودعه ثم تركه ومضى مع زوجته نحو المدينة بينما ظل الرجل لفترةٍ مطرقاً يفكر بهذا الخليفة العظيم .. شعر بنعمة الراعي القوي الأمين ..
رفع رأسه إلى السماء ..
- اللهم هذا عبدك عمر قد رفق بنا .. اللهم فارفق به ..